إيليا النبي
النبي العظيم فى أيام أخآب الملك ، وقد وُصف عند بدء ظهوره بأنه إيليا
التشبي من مستوطنى جلعاد ( 1مل 17 : 1 ) ، فلابد أن موطنه كان يدعى تشبه
فى تخوم نفتالي ، ولكن يرى أغلب المفسرين فى العصر الحاضر أنه إذا أخذنا
بالترجمة السبعينية للعدد الأول من الأصحاح السابع عشر من سفر الملوك
الأول ، نجد أن كلمة مستوطن هى نفسها تشبه وبذلك يتحدد موقعها فى جلعاد ،
ويكون النبي من مواطني تلك المنطقة الجبلية وليس مجرد مستوطن فيها .
أولاً- أعمال إيليا : نقرأ فى سفر الملوك الأول ( 16 : 29-34 ) عن شرور
أخآب التى انتهت به الى عبادة بعل إله الصيدونيين معبود الملكة إيزابل ،
وقد جاء فى هذا الفصل ذكر حادثة أخرى ( العدد 34 ) حدثت فى عصر أخآب تدل
على مدى الاستهانة بإنذارات نبوية قديمة ، بإعادة بناء إريحا بواسطة حيئيل
البيتئيلي ففقد ابنيه الأكبر والأصغر . هذه هى الحال التى استلزمت قضاء
الله ، الذى سبق التنبؤ عنه ، فأرسل الله نبيه الأمين لإعلان هذا القضاء .
1. العقاب بالقحط : لا تذكر لنا القصة التى تبدأ فى الأصحاح السابع عشرمن
سفر الملوك الأول ، هل كان إيليا شخصية معروفة فى بلاط الملك أخآب من قبل
أم لا ، ولكن لباسه وهيئته كانا ينمان عنه كنبي ( 2مل 1 : 8 ، زك 13 : 4 )
. يعلن إيليا لأخـآب فى كلمات قليلة أن الرب هو الإله الحقيقي الوحيد
لإسرائيل وأنه مرسل منه ، وأن الرب سيرسل عليهم القحط الذى سيستمر الى أن
يقرر النبي نهايته . وفى الحقيقة إن المدة لم يحددها إيليـا بل الله نفسه
، ولن تكون قصيرة هـذه السنين ( 1مل 17 : 1 ) ولن تنتهى إلا متى أصبح
القصاص رادعاً. وفى طاعة كاملة لأمر الله ، كسائر الأنبياء الأمناء، خبأ
إيليا نفسه فى أحد الوديان فى شرفي الأردن حيث يوجد نهر كريث ليمده بالماء
، والغربان تعوله بخبز ولحم مرتين فى اليوم ( 1مل 7 : 2-6 ) ، وإذ استمر
الجفاف ، يبس النهر ، فأمره الله أن يذهب إلى ما وراء تخوم مملكة أخآب
الغربية إلى قرية صرفة التى لصيدون ، وهناك كانت الأرملة التى أرسله الله
إليها ، تجمع بعض عيدان الحطب عند باب المدينة ، لتعد آخر وجبة غذائية لها
ولابنها . وأطاعت الأرملة أمر النبي بأن تعمل له كعكة صغيرة أولاًمن هذا
المخزون الضئيل الذى بقى لها ، وكانت النتيجة أنها تمتعت بإتمام الوعد
الذى أعطاها إياه إيليا باسم الرب ، بأن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت
لا ينقص إلى أن يأتى الرب بالمطر ( ويقول يوسيفوس نقلا عن ميناندر إن
القحط امتد إلى فينيقية واستمر بها مدة عام كامل ) . ولما مرض ابن الأرملة
ومات ، ظنت أن ذلك هو قضاء الله على خطاياها، جاء عليها بسبب وجود نبي
الله ، ولكن إيليا أخذه منها وصعد به إلى العلية التى كان مقيما بها
وأضجعه على سريره ، وصرخ إلى الرب … فعادت الحياة إلى الولد ( 1مل 17 :
17-24 ) .
وفى السنة الثالثة ( 1مل 18 : 1 ونجد فى لو 4 : 25 ، يع 5 : 17 أن مدة
القحط كانت ثلاث سنين وستة أشهر ) أمر الله إيليا أن يتراءي لأخآب ليبشره
بأن الرب سيعطى مطراًعلى وجه الأرض . ويبدو مدى معاناة الإنسان والحيوان
من جراء الجفاف ، وكذلك قسوة المجاعة ، فى تلك الحقيقة ، ألا وهى خروج
الملك ووكيله للبحث عن رقعة من عشب أخضر يمكن أن يصلح للإبقاء على خيل
الملك وبغاله حية ( 1مل 18 : 5و 6 ) . والكلمات التى نطق بها عوبديا تبين
الانطباع الذى خلفته غيبة النبى الطويلة ، فقد كانوا يعتقدون أن روح الله
قد حمل إيليا إلى مكان غير معروف لا يمكن الوصول إليه ( 1مل 18 : 10و 12 )
، وخشى عوبديا أن يتكرر هذا الأمر ، وأخذ يتوسل إلى النبي طالباًإعفاءه من
حمل هذه الرسالة إلى أخآب ، مستنداًعلى تقواه المعروفة وغيرته التى بدت فى
تخبئة وإعالة مئة من أنبياء الرب ، فى إبان اضطهاد إيزابل ، فطمـأن إيليا
عوبديا بأنه يتقابل حتماًمع أخآب ( عدد 15 ) ، وواجه الملك إيليا النبي
بكلمات الغطرسة : أأنت هو مكدر اسرائيل ، ولكن إيليا قابل سخريته بمثلها،
فويلات إسرائيل لا تعود إلى النبي الذى أعلن القضاء ، بل إلى الملك الذى
جعل الشعب يخطئ مما استجلب عليه العقاب (17و 18 ).
2. المحاكمة بالصلاة : تقدم إيليا ليتحدى اختيار قوة الآلهة الكاذبة ،
وكان بين من يأكلون على مائدة إيزابل ، 450 نبياًللبعل ، و 400 نبي
لعشتاروت ، بالرغم من المجاعة القاسيـة . وبناء على اقتـراح إيليا ، دعا
أخآب كل هـؤلاء مع كل الشعب إلى جبل الكرمل ( 19و 20 ) .
كانت كلمات إيليا الافتتاحية ، تكشف عن حماقة من يظنون أن الولاء يمكن أن
ينقسم بين إلهين : إلى متى تعرجون بين الفرقتين ( ويحتمل أنها تعنى القفز
بين عتبتين - فى إشارة تهكمية لعادة القفز فوق عتبة هيكل الوثن
تجنباًلعثرة غير لائقة 1صم 5 : 1-5 ) واعتماداًعلى صمت الشعب واعتباره
علامة على قبوله لكلماته الأولى ، قدم إيليا اقتراحه وشروطه للامتحان .
سيذبح ثور للبعل وثور للرب ، بشرط عدم وضع نار والإله الذى يجيب بنار فهو
الله ، فأجاب جميع الشعب وقالوا الكلام حسن ( 22-24 ) . وظل أنبياء البعل
- تحت أشعة شمس ملتهبة - يدعون إلههم فى شبه جنون ، وإيليا يسخر منهم
ويتهكم عليهم ( 25-29 ). وفى ميعاد تقديم ذبيحة المساء فى هيكل الرب فى
أورشليم ، أعاد إيليا بناء المذبح القديم الذى لعله هدم فى أثناء موجة
الاضطهاد التى أثارتها إيزابل ، واستخدم فى بنائه اثنى عشر
حجراًرمزاًلأسباط إسرائيل جميعها فى وحدة واحدة ، ثم غمر الذبيحة والحطب
بالماء من نبع ماء تحت منحدرات الكرمل ، حتى امتلأت قناة عميقة متسعة حول
المذبح ، كانت تسع كيلتين من البزر ، وبكلمات قليلة دعا الله ، إله الآباء
( 30-37 ) فاستجاب الرب بنار أكلت الثور والحطب والتراب ، ولحست المياه
التى فى القناة حتى ارتجف جميع الشعب فزعاً، وإذ اقتنعوا بأن الرب وحده هو
إلههـم ، نفذوا حكم النبي الجازم بالقضاء على كل أنبيـاء البعل (38-40) ثم
طلب إيليا من أخـآب أن يسـرع إلى بيته ليأكل الوليمة احتفاء بسقوط المطر .
وصعـد إيليا الى قمة الجبل وخر الى الأرض ساجداًللرب فى صلاة . وأرسل
خادمه سبع مرات ليستطلع الجو عبر البحر ، وأخيراًرأى غيمة صغيرة قدر كف
إنسان صاعدة من البحر ، وقبـل أن يعبر الملك وادى يزرعيل ، هطل المطر
العظيم من السماء التى تلبدت بالغيوم الداكنة بعد ثلاثة سنوات من الجفاف .
وكانت يـد الرب على إيليـا فشـد حقويـه وركض - بقـوة خارقـة - حتى أبواب
يزرعيل (41-46) .
3. فى حوريب : فى تلك الليلة جاء رسول من إيزابل إلى إيليا يحمل له رسالة
: أنت إيليا وأنا إيزابل ( كما ورد فى الترجمة السبعينية ) هكذا تفعل
الآلهة وهكذا تزيد ( أى لتقطعنى الآلهة إرباًإرباًإذا أخلفت وعدى - تك 15
: 8-11 و 17 و 18 ، إرميا 34 : 18 و 19 ) إن لم اجعل نفسك كنفس واحد منهم
( أى من أنبياء البعل المذبوحين ) فى نحو هذا الوقت غداً. ولنفسر تصرف
إيليا كما نشاء - فكل الاحتمالات الممكنة لها مدافعون - فقد هرب
فوراًطلباًللنجاة . وفى بئر سبع فى الطرف الجنوبي ليهوذا، ترك غلامه -
الذى لا تذكره القصة فى أى مكان آخر - وسار فى البرية الجنوبية وجلس تحت
رتمة وصلي طالباًالموت لنفسه ( 19 : 1-4 ) . وجاءه ملاك بوجبة وأيقظه
ليأكل ، فأكل وشرب ثم رجع فاضطجع ، فجاءه الملاك مرة ثانية وأيقظه وقال له
قم وكل لأن المسافة كثيرة عليك ، فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة
أربعين نهاراًوأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب ودخل هناك المغارة وبات
فيها ( 5-8 ) .
وتكرار عبارة : قد غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بنى إسرائيل قد تركوا
عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك فبقيت أنا وحدى وهم يطلبون نفسي
ليأخذوها فى عددى 10 و 14 ، يشكل صعوبة ، إلا إذا كنا نرى فيها دليلاًعلى
أن كآبة إيليا كان من الصعب التغلب عليها ، أو أنه طلب فى حوريب
ظهوراًخاصا للرب لتشجيعه ، أو كلا الأمرين . وأمره الرب أن يقف على الجبل
المقدس ( لأنه هناك أظهر الرب ذاته لموسي ) ، وإذا بالرب عابر معلناًقدومه
بالريح العظيمة والزلزلة والعاصفة الرعدية ( 9-12 ) ، ولم تكن هذه إلا
مجرد نذر ، فلم يكن الرب فيها ، لكنه كان فى الصوت المنخفض الحفيف وهو ما
اعتاد الأنبياء سماعه فى قرارة نفوسهم ، ولما سمع إيليا هذا الصوت الداخلي
المألوف ، تيقن من وجود الله ليسمعه ويجيبه . حاول إيليا أن يبرر هروبه
إلى البرية ، بأنه قد غار غيرة شديدة للرب ، وفعل من أجل الرب - قبل أن
يهرب - كل ما يستطيع نبي زائل أن يفعله ولكن بلا طائل ، فإن الناس الذين
أهملوا شريعة الرب وعهده وهدموا مذابحه وقتلوا أنبيـاءه ، كانوا على
استعداد أن يذبحوا إيليا نفسه بأمر من إيزابل ، وبذلك يقضون على الخادم
الأمين الوحيد للرب فى كل أرض إسرائيل ( 13و 14 ) .
لكن حنان الرب تجاوز شكوى إيليا ، وأعطاه إرشادات لعمل آخر فى خدمة الرب ،
فكان على إيليا أن يمسح حزائيل ملكاًعلى أرام ، أقـوى عدو بين جيران
إسرائيل ، وأن يمسح ياهو بن نمشي ليقضى على بيت أخـآب ويتولي عرش إسرائيـل
، وأن يمسح أليشع نبياًعوضاًعنه . هؤلاء الثلاثة : حزائيل وجيش أرام ،
وياهو وأتباعه ، وأليشع نفسه ، سيقضون على عبدة الأوثان والمازحين فى
إسرائيل ، وقد أبقى الرب لنفسه سبعة آلاف ركبة لم تجث لبعل ( وهذا العدد
تقريبي محدود ولكنه ليس عدداًصغيراً، وهو يحمل نفس فكرة الأنبياء - الذين
جاءوا بعده - عن خلاص بقية تقية فى إسرائيل ، فى أمان من الدينونه لأنهم
لم يشتركوا فى خطية سائر الشعب . وإذا كان ثمة توبيـخ لإيليا ، فقد كان
ذلك فى المقابلة بين السبعة الآلاف من الأمناء ، والواحد - أى إيليا -
الذى ظن أنه هو وحده الأمين الوحيد فى إسرائيل ( 15 - 18 ) .
4. قضية نابوت : يبدو أن مسح حزائيل ملكاًعلى أرام ، وياهو ملكاًعلى
إسرائيل ، قد تُرك لخليفة إيليا ، وفى الواقع نحن لا نقرأ شيئاًعن مسح
حزائيل ، ولكننا نقرأ فقط عن المقابلة التى تمت بين أليشع وحزائيل ( 2مل 8
: 7-15 ).
ويظهر إيليا بعدئذ موبخاًلأخآب على مقتل نابوت ، فى نفس قطعة الأرض التى
اشتهاها الملك واغتصبها بعد مقتل صاحبها. ظهر النبي أمام أخآب على غير
انتظار وعلى غير رغبة من الملك ، ليعلن لأخآب وإيزابل القضاء عليهما
بالموت المشين ( 1مل 21 ) وكان حاضراًفى ذلك المشهد قائد يدعى ياهو ، وهو
نفس الشخص الذى اختبر ليكون ملكا على إسرائيل ، ولم ينس قط ما رأى وما سمع
( 2مل 9 :25و 26 ) .
5. إيليا وأخزيا : لقد رفعت توبة أخآب عنه بعض حدود القضاء ، ولكن ابنه
أخزيا استجلبها على رأسه شخصياً، فقد مرض مرضاًخطيراًنتيجة الجروح التى
أصابته من سقوطه من الكوة التى فى عليته ، فأرسل أخزيا ليسأل المنجمين فى
هيكل بعل زبوب إله عقرون إن كان سيبرأ من مرضه . فقابل إيليا الرسل
وأرجعهم بنبوة بموته ، ليست من بعل زبوب بل من الرب . وأدرك أخزيا من
أوصاف رسله للرجل الذى قابلهم ، أنه العدو القديم لأسرته ، فأرسل أخزيا
خمسين جندياًوقائدهم للقبض على إيليا ، فأكلتهم نار من السماء كقول إيليا
، فأرسل قائداًآخر ومعه خمسون آخرون ، فلقوا نفس المصير . أما القائد
الثالث فتوسل للنبي أن يبقي على حياته وحياة الذين معه ، فذهب النبي معه
إلى الملك ، ولكن ليكرر نفس كلمات القضاء ( 2مل 1 ) .
6. صعود إيليا : كان ثمة إنذار لإيليا - نما أيضا إلى بني الأنبياء - بأن
حياته أوشكت على النهاية ، وكان يريدها على أى حال ، وقد أقسم أليشع ألا
يفارق سيده . وشق إيليا الأردن بضربة من ردائه ، وعبر الاثنان معاًإلى
الشرق نحو البرية . وطلب أليشع أن يكون له نصيب البكر من روح سيده ، ثم
ظهرت مركبة نار وخيل من نار وفصلت بينهما و صعد إيليا فى العاصفة إلى
السماء ( 2مل 2 : 1-11 ) .
7. الرسالة إلى يهورام : نقرأ فى سفر أخبار الأيام الثانى ( 21 : 12-15 )
عن كتابة أتت من إيليا الى يهورام بن يهوشافاط ملك يهوذا ، والعبارات
الواردة فى سفر الملوك الثانى ( 2مل 3 : 11و 12 ) لا تترك مجالاًلأي تفسير
آخر إلا بأن خلافة أليشع لإيليا فى العمل النبوي المستقل ، قد تمت فعلاًفى
حياة يهوشـافاط ، وأن ما جاء فى ملوك الثانى ( 8 : 16 ) يشير إلى أن
يهورام بدأ الحكم قبل وفاة والده يهوشافاط بمدة ، ويحتمل أن إيليا قد ترك
رسالة - تحولت إلى رسالة مكتوبة قبل رحيله أو بعده - لملك يهوذا القادم ،
والذى سينحرف عن الإيمان الصحيح .
ثانياً- خدمة إيليا : إن تقديرنا لأهمية خدمة إيليا يتوقف على مدى إدراكنا
للأحوال التى واجهها النبي فى إسرائيل ( المملكة الشمالية ) . فبينما كان
حكم أخآب ناجحاًبحسب الظاهر ، وكان الملك نفسه على درجة من الحنكة
السياسية مع شجاعة شخصيته ، إلا أنه فى سياسته الدينية تهاون مع العقائد
الباطلة والعبارات الوثنية ، مما كان لابد أن يـؤدى إلى الكارثة . فمنذ
أيام يشوع كانت عبادة يهوه فى صراع مع عبادة الكنعانيين القديمة لقوات
الطبيعة ، عبادة آلهة محليين مثل البعليم أو أرباب هذه أو تلك من الأمم
المجاورة الذين قامت مذابحهم العتبقة على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت
كل شجرة خضراء ( تث 12 : 2 ) .
والإله الذى جاءت به إيزابل من فينيقيـة ، كان يحمل أيضاًاسم بعل ، لكن
صفاته وأساليب عبادته ، كانت أسـوأ وأخس من كل ما عـرف من قبل ، وأدت
مقاومة عبيد يهـوه لأوامر الملكة بخصـوص آلهتها المفضلـة ، إلى اضطهـاد
عبيد الرب الأمناء ( 1مل 18: 4 ) .
وفى مواجهة هذا الخطر اختفت الخلافات التى كانت بين عبادة الله فى المملكة
الشمالية ، وعبادة الله كما كانت تجرى فى أورشليم . وكان كل مسعى إيليا ،
هو دعوة الشعب من عبادة آلهة الصيدونيين إلى عبادة الرب إله آبائهم . ونرى
قوة القيادة الحقيقية - فى وسط المحنة - فى أمانة شخص مثل عوبديا ( 1مل 18
: 3 )، أو ولاء البقية التقية - السبعة الآلاف رجل - رغم كل ذلك الاضطهاد
( 19 : 18). إن العمل الذى بدأه إيليا ، قد ختمه ياهو بالدم ، حتى إننا لم
نعد نسمع بعد ذلك عن عبادة البعل فى إسرائيل ( 2 مل 9و 10 ) . وافتراض أن
إيليا فى حوريب عرف معنى لطـف الله ، ليتعارض تماماًمع القرينة المباشرة
ومع تاريخ عصره . وقد جاء الأمر إلى إيليا بأن يمسـح ملكاًعلى أرام ، وآخر
على إسرائيل ، ونبياًليكمل رسالته ، مع الوعد بأن هؤلاء الثلاثة سيتعاونون
معا فى تنفيذ القضاء الذى تستحقه مملكة إسرائيل العاصية لارتدادها عن
عبادة الله إلى عبادة الأصنام .
لم يكن إيليا داعياًللسلام ، فلقد كانت رؤية السـلام محجوبة عن عينيه،
محفوظة عن عينيه ، محفوظة لأنبياء سيجيئون بعده ، كان عليه هو اعداد
الطريق . كانت رسالته هى ابادة عبادة الأصنام - بأى ثمن - لئلا بيبد
إسرائيل ذاته ، مع احتمالات ومضاعفات يصعب تقدير مضارها .
ولولا ما قـام به إيليا تحت إرشـاد الله ، لما كان هنـاك أسـاس يقف عليـه عاموس وهوشع .
ثالثاً- شخصية النبي : لم يقصد كاتب سفر الملوك أن يدون لنا دراسة مفصلة
عن شخصية النبي إيليا ، بل إنه لم يعد المادة اللازمة لمثل هذه الدراسة ،
وما دونه الكتاب عن شخصية إيليا فى رسالة الرسول يعقوب ( 5 : 17 ) : كان
إيليا إنسانا تحت الآلام مثلنا ليس إلا عبارة موجزة جداًولكن بفحص الكتب
التى نشرت عن حياة إيليا ، نرى أنه من الممكن أن مخطئ فى استقراء معان من
الحوادث ، لم تقصد اليها هذه الأحداث بل ولا تحتملها ، كما أنه من الممكن
أن نقحم عليها أموراًهى محض خيال . من السهل مثلا أن نري بأن إيليا ظهر
أمامنا فى الكتاب بغتة ، وأن أحداث ظهوره واختفائه تبدو غير متماسكة
ألا يكفى لتفسير ذلك ، ملاحظة أن المؤرخ لم يقصد أن يضع سيرة كاملة لأى
نبي أو أى ملك ، ولكنه كان يهدف الى إبراز عمل الله فى مملكتى إسرائيل
ويهوذا من خلال الأنبياء
لذلك لا نجد سوي بعض الأحداث فيما يختص بنبي مثل إيليا ، بل إننا لا نجد
شيئا بالمرة يتصل بشخصه إلا إذا كان له صلة مباشرة برسالته . وقد تخيل
البعض أنه كان ثمة تدريب لإيليا فى اختبارات النبي ، ولكن الاقرار بأنه لم
يكن هناك بد من تلك التدريبات ، ليس معناه بالضرورة أن نستشفها من الحوادث
والمشاهد التى تسجلت .
واستبعاد أى محاولة لتصوير تفاصيل الحياة
الداخلية لإيليا - للأسباب المذكورة آنفا- لايمنع من محاولة دراسة ما نراه
فى ظاهر القصة ، من الإيمان بالله بأنه إله الطبيعة وإله العهد مع الآباء
ونسلهم ، والغيرة الملتهبة ضد العبادة الباطلة التى أزاحت الله عن المكان
الذى يجب أن يكون له وحده ، والرؤية الواضحة للرياء والبطل ، والحكمة
العميقة فى مقاومة الارتداد بنفس الشجاعة بدون النظر الى ذاته ، وكل ذلك
هو ما يبرز سمات النبي الحقيقى فى أى عصر .
رابعاًمعجزات فى سيرة إيليا : يجب الاعتراف بان العنصـرالمعجزي بارز فى
اختبارات إيليا وأعماله . ولايمكن تقييم ذلك بالانفصال عن الموقف العام
الذى يقفه الدارس من المعجزات المدونة فى العهد القديم . فمحاولة تفسير أى
معجزة أو أى جزء منها بطريقة عقلانية ، أمر غير مجد على الإطلاق ، فغربان
إيليا ، يمكن بتغيير الغين إلى غين أن تصبح الكلمة عربان ، ولكن مع
الاعتراف بأن الشرقيين كرماء يمكن أن يأتوا بالطعام للنبي ، إلا أن نغمة
القصة ككل ، تدل على أن الكاتب قصد الغربان وليس العربان ، وأنه رأى فيها
مزيداًمن قدرة يهوه على كل شيئ ، كما يظهر ذلك أيضا فى كور الدقيق وكوز
الزيت ، وكفايتهما للنبي وأرمله صرفة صيدا ، وفى النار من السماء ، وشق
نهر الأردن ، وصعود إيليا فى العاصفة الى السماء . ويرى بعض النقاد
المحدثين أن ما جاء فى الأصحاح الأول من سفر الملوك الثانى ، هو اضافة
متأخرة ، ولكن ليست ثمة مشكلة حقيقية على الاطلاق ، فبإمعان النظر ، تزول
أى مشكلة ، فالنبي الصارم الذى يأمر بذبح 450 من أنبياء البعل ، يستطيع أن
يطلب أن تنزل نار من السماء لتلتهم جنود ملك مرتد عن الله . إن الغرض
والمعنى المقصودين من قصة حياة إيليا ، يمكن أن يدركهما أولئك الذين
يقبلون فكر الكاتب عن الله وقدرته وعمله فى الطبيعة ومع البشر ، أكثر من
أولئـك الذين يحاولون استبدال هذا المفهوم بآخر .
خامساً- إيليا فى العهد الجديد : يذكر سفر ملاخى ( 4 : 5 ) أن إيليا سيأتى
قبل مجئ يوم الرب العظيـم والمخوف ، وقد وردت الإشـارات إلى هذه النبوة فى
إنجيل متى ( 6 : 15 ) وما يقابله فى إنجيـل لوقا ( 9 : 8 ) ، وفى إنجيل
متى ( 16 : 14 ) وما يقابله فى إنجيل مرقس ( 8 : 28 ) ، وفى إنجيل متى (
27 : 47-49 ) وما يقابله فى إنجيل مرقس ( 15 : 36.35 ) .
ونرى تفسيراًلنبوة ملاخى فى إعلان الملاك لزكريا ( لو 1 : 17 ) بأن يوحنا
المعمـدان سيعمل عمل إيليا ، وتأيد هذا بما قاله الرب يسوع نفسه ( مت 11 :
14 ، مرقس 9 : 13 ) .
وظهور إيليا وموسي على جبل التجلى ، نراه مدونا فى إنجيل متي (17 : 1-13 )
، وفى إنجيل مرقس ( 9 : 2-13 ) وفى إنجيل لوقا ( 9 : 28-36 ) . ويقول الرب
يسوع إن إيليا المذكور فى ملاخى هو يوحنا المعمدان . ولاشك أن مصير جنود
أخزيا كان فى ذهن يعقوب ويوحنا حينما أرادا أن تنزل نار من السماء فتفنيهم
كما فعل إيليا أيضا ( لو 9 : 54 ) . ويشير المسيح نفسه إلى إيليا وذهابه
إلى صرفة التى للصيدونيين ( لو 4 : 26.25 ) . ويذكر بولس ما حدث من النبي
فى حـوريب ( رو 11 : 2-4 ) ، وفى رسالة يعقوب ، نرى فيما فعله إيليا ، قوة
فاعلية صلاة البار .